إنها بداخلك !!… لا تبحث عنها…

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتكاثر فيه الملهيات، ينساق الإنسان في رحلة بحث دائمة عن السعادة، السلام، القوة، الطمأنينة، أو حتى المعنى. يسافر البعض إلى أقاصي الأرض بحثاً عن إجابة، ويغوص آخرون في الكتب والفلسفات والدورات التدريبية يفتشون عن جوابٍ ما. إلا أن ما يغفل عنه كثيرون هو أن ما يسعون إليه ويبحثون عنه بلهفة، قد لا يكون موجوداً في الخارج على الإطلاق، بل يكمن في الداخل، بعمق النفس، في جوهر الذات. إنها فيك… نعم، إنها بداخلك. لا تبحث عنها خارجاً، لأنها لم تغادرك يوماً.

جوهر الإنسان: ما خُلق فيك لا يُستورد من الخارج

الإنسان كائن فريد خُلق بتوازن دقيق بين العقل والروح والجسد. هذا التكوين الثلاثي يضم في طياته مفاتيح الإجابات التي يبحث عنها المرء طوال حياته. منذ لحظة الولادة، يحمل الإنسان داخله بذور القوة، ومفاتيح السكينة، ونور الحكمة، وطاقة التغيير. لكن المشكلة لا تكمن في غياب هذه القيم أو المشاعر، بل في غفلتنا عنها، في ضجيج العالم من حولنا الذي يُلهينا عن الإصغاء إلى صوتنا الداخلي.

الطفل يولد ببصيرة نقية، بحس داخلي تجاه ذاته والكون. لا يعرف الخوف من الرفض، ولا يقلق من نظرة الآخرين. لكن مع مرور الوقت، ومع التلقين الاجتماعي، وتكرار المقارنات، وتراكم الإحباطات، تبدأ تلك البذور بالتراخي، وتبدأ الغشاوة بالتكون فوق مرآة الذات، فينسى الإنسان ما يحمله بداخله.

السعادة: ليست هدفاً… بل حالة داخلية

كم من الناس يربطون السعادة بمكان، أو شخص، أو وظيفة، أو مبلغ مالي معين؟ يعيشون معتقدين أن السعادة شيء خارجي يتم امتلاكه. في الحقيقة، هذا المفهوم السائد ليس إلا وهم. السعادة لا تُشترى، ولا تُهدى، ولا تُصنع من الخارج. إنها تجربة داخلية تنبع من التصالح مع الذات والرضا عن الحاضر والقدرة على التقدير.

علم النفس الإيجابي يشير إلى أن حوالي 50% من مستوى السعادة يعود للعوامل الجينية، و40% للأنشطة المقصودة والتفكير الواعي، و10% فقط للظروف الخارجية. أي أن غالبية شعورك بالسعادة مرتبط بما فيك، لا بما لديك. لذا، السعادة في حقيقتها ليست شيئاً يُمنح، بل شيئاً يُستخرج.

السلام الداخلي: لا يحتاج لصمت المكان بل لصمت الضجيج الداخلي

قد يظن البعض أن السلام الداخلي يتحقق بالهروب إلى الجبال، أو العيش في أماكن هادئة بعيدة عن صخب المدن. لكن الحقيقة الأعمق أن السلام لا يرتبط بالبيئة بقدر ما يرتبط بالحالة الذهنية. السلام ليس غياب الضجيج، بل هو وجود توازن داخلي رغم الضجيج.

الفلاسفة والمتصوفة تحدثوا طويلاً عن “العودة إلى الداخل”، حيث لا يمكن للرياح أن تزعزعك إن كنت متصالحاً مع ذاتك. فحتى في قلب المعارك النفسية أو الحياتية، يمكن للإنسان أن يعيش هدوءاً عميقاً إذا ما أدرك أن مركز التحكم في سلامه النفسي لا يوجد في الخارج، بل في داخله. إنه خيار يتطلب وعياً وممارسة.

القوة: ليست في الجسد بل في الوعي

كثيراً ما يُربط مفهوم القوة بالقدرة الجسدية أو بالنفوذ أو التأثير. غير أن القوة الحقيقية تبدأ من الداخل، من السيطرة على الانفعالات، من الثبات في المواقف، من المرونة في التحديات. هي قوة الثقة، وقوة الحضور، وقوة أن تقول “لا” وقت الحاجة، وقوة التسامح حين يكون الانتقام ممكناً.

القوة الحقيقية لا تصرخ، بل تُشعّ. لا تفرض ذاتها، بل تُلهم. إنها فيك، تكمن في إرادتك، في عمق إيمانك، في ذلك الصوت الصغير الذي يقول لك: “انهض من جديد”. ما يظنه الآخرون ضعفاً قد يكون في الحقيقة أقصى درجات القوة… حين تختار الصمت بدل الرد، والسلام بدل الصراع، والنور بدل الغضب.

المعنى والغاية: ليست مهمة تُكتشف بل طاقة تُستدعى

كم من الناس يتجولون بين التخصصات والمهن والمدن والعلاقات بحثاً عن “المعنى”؟ يظنون أنه شيء خارجي يجب اكتشافه أو استيراده. في الحقيقة، المعنى ليس شيئاً ثابتاً، بل حالة ديناميكية تتشكل من طريقة رؤيتك للأمور، من قدرتك على الربط بين ذاتك والعالم من حولك. هو ليس مهمة تنتهي، بل حوار دائم بينك وبين الحياة.

كل إنسان لديه قدرة داخلية على خلق المعنى من التجربة. حتى في أقسى اللحظات، يمكن أن يولد منها نور إن سمحت له بالدخول. معنى الحياة لا يُعطى، بل يُصنع من الداخل، عبر قراراتك، وقيمك، ومواقفك. أنت من تصنع غايتك، لا هي من تصنعك.

جدول: مقارنة بين القيم الداخلية والقيم الخارجية

الرحلة إلى الداخل: كيف تستدعي ما فيك؟

الرحلة إلى الداخل ليست عملية آنية أو قراراً عابراً، بل مسار متواصل يتطلب شجاعة وصدقاً. تبدأ الرحلة أولاً بالصمت، بالصبر على النفس، بالاستماع العميق لما يُقال في داخلك. حين تسكت أصوات العالم، تسمع صوتك الحقيقي. التأمل، الكتابة التأملية، العزلة الإيجابية، كلها وسائل فعّالة لتصفية الضجيج والسماح للداخلي بأن يظهر.

كذلك، لا يمكن الوصول إلى الداخل دون إزالة الأقنعة. كثير من الناس يلبسون أقنعة التوقعات الاجتماعية، والأدوار المفروضة، والصور النمطية، فينسون من يكونون حقاً. التجرّد من هذه القشور خطوة أساسية نحو الاكتشاف.

أيضاً، التجارب الحياتية الصعبة ليست عوائق بل أدوات، هي مرايا تعكس لك ما خفي عنك. لا أحد يخرج من الألم كما دخل إليه، بل يعود منه أقرب إلى ذاته، إن اختار أن يتعلم لا أن ينكسر.

خاتمة: المعرفة التي لا تُمنح بل تُستعاد

في النهاية، ما تبحث عنه لن تجده في الكتب فقط، ولا في الرحلات، ولا في الآخرين. إنك لن تحصل عليه لأنه لم يُفقد أساساً. إنك فقط تحتاج أن تستعيده. أن تلتفت إلى داخلك، أن تُسلّط الضوء على ما فيك من جمال وقوة وقدرة.

قد تمضي عمراً تبحث في الخارج، لكنك لن تطمئن حتى تدخل… وتبقى. لأنك حين تعود إلى ذاتك، تجدها تنتظرك، حاملة كل ما ظننت أنه بعيد. إنها بداخلك… وستظل دائماً كذلك.

المراجع:

• Viktor E. Frankl, Man’s Search for Meaning, Beacon Press, 2006.

• Brené Brown, The Gifts of Imperfection, Hazelden Publishing, 2010.